الواقع العام في المدينة المنورة
الدولة الإسلامية لها من العمر الآن سنتان في المدينة، ورسول الله يقود الدولة، ولكن الوضع داخل المدينة ليس مستقرًّا أبدًا؛ فلدينا طوائف شتى من المشركين من قبيلتي الأوس والخزرج، ولدينا اليهود، ولدينا قريش، خاصةً بعد أن جرحت في كبريائها في سرية نخلة، وهناك أيضًا قبائل الأعراب المحيطة بالمدينة، والتي كانت تعيش قبل ذلك على الإغارة والسرقة، ووجود دعوة إسلامية في المدينة يحجِّم كثيرًا من أنشطة السلب والنهب لتلك القبائل، وهذا -لا شك- لا يعجب هذه القبائل، فالأوضاع إذن غير مستقرة بالمرَّة.
أهمية غزوة بدر
يوم الفرقان أو غزوة بدر كانت في 17 من رمضان سنة 2 هجرية، المعركة التي قلبت موازين العالم، أو بالأحرى عدَّلت موازين العالم المقلوبة.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر أنه ليس من الضروري أن تحدث نقاط التغيير المحورية في العالم نتيجة صراع بين قوة عالمية أولى، وقوة أخرى في نفس وزنها وعلى قدرها، بل قد يبدأ التغيير بحدث لا يعطيه الناس أيَّ أهمية، بل قد لا يشعرون به أصلاً، فمن كان يسمع ببدر من الفرس والروم أو أهل الصين؟ بل تدبر معي: ما قيمة غزوة بدر أصلاً؟
إن بدرًا معركة بين ثلاثمائة ونيِّف من المسلمين أمام ألف من المشركين في نقطة مجهولة في الصحراء، وأيُّ محلل عسكري في ذلك الوقت لن يرى فيها أكثر من معركة بين قبيلتين أو مجموعتين من الناس، أو مشاجرة بين عائلتين، لا تحمل أيَّة خطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك.
إن جيوش الروم في ذلك الوقت كانت تقدَّر بالملايين، وجيش فارس كان يزيد على مليوني جندي، بينما كانت الشعوب تعيش على مساحات واسعةٍ من الأرض تُكوِّن الآن عشرات الدول.
إن معركة بدرٍ في التحليل السطحي معركة عابرة لا يُرجى أن يكون لها أيّ أثر من أيّ نوع، إلا في بعض النقاط غير المرئية في حياة الصحراء، ولكن التحليل العميق يثبت غير ذلك تمامًا، فبعد بدر ولدت أمة ثابتة راسخة لها رسالةٌ ولها هدف ولها طموح، تغير التاريخ البشري حقًّا بعد قيام دولة الإسلام، فقد نشأت الأمة التي حملت على عاتقها هداية البشرية، الأمة التي ستصبح خير أمة أخرجت للناس.
خرج الجيش الذي سيزلزل بعد ذلك عروش كسرى وقيصر.
يوم الفرقان
إن بدرًا معركة فرّقت بين مرحلة كانت فيها دولة الإسلام دولة ناشئة ضعيفة مهددة، ومرحلة أخرى صارت فيها هذه الدولة فتيَّة قويَّة لها اعتبار وشأن في المنطقة، وأصبح العالم كله يسمع عنها.
كانت بدر إذن لحظة فارقة حقًّا؛ لذلك ليس من المستغرب أن يسميها الله I يوم الفرقان.
إنَّ مقاييس الله I ليست كمقاييس البشر، فقد حدثت عدة صدامات وحروب مروعة بين الروم والفرس، ولم يتغير من واقع العالم ولا من وجه التاريخ شيءٌ، يقول تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الرُّوم: 1- 4].
فازت الروم أو هزمت الروم ليس لذلك أثرٌ في واقع الأرض، ما هي إلا لحظات عابرة في عمر البشرية، أمَّا الصدام البسيط الذي حدث بين المدينة المنورة ومكة فقد غَيَّر وجهَ الأرض إلى يوم القيامة.
لم تكن بدر أبدًا لحظة عابرة، بل كانت لحظة فارقة.
وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نقف وقفة طويلة أمام غزوة بدر، فغزوة بدر لم تكن غزوة عظيمة بجغرافيتها أو خططها أو السلاح المستخدم فيها، إنما كانت عظيمة بأهل الحق فيها، ولو كانوا قلة بسيطة فقراء أو كما وصفهم القرآن أذلة: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].
كانت بدر عظيمة بالطائفة المؤمنة النبيلة التي شاركت فيها.
من أجل هذه الطائفة حدثت تغييرات كونيَّة هائلة، فنزلت الملائكة وخضع الشيطان، بل نكص على عقبيه مذمومًا مدحورًا.
لا بد أن نقف وقفة لندرس هذه الطائفة المؤمنة.
هذه الطائفة هي معيار للجيش المنتصر.
إن جيش بدر مقياسٌ لجيوش المسلمين؛ فالجيش الذي يستطيع الاتصاف بصفات جيش بدر يستطيع تحقيق انتصارات كانتصار بدر، ويستطيع صناعة يومٍ يسمَّى (يوم الفرقان)، سواء كان ذلك الآن، أو من مائة سنة مضت، أو بعد مائة سنة قادمة، وإلى يوم القيامة.
أسباب غزوة بدر
قافلة مكية عائدة من الشام إلى مكة بقيادة أبي سفيان بن حرب، قافلة ككل القوافل التي خرج إليها المسلمون قبل ذلك، ومعظم القوافل التي قبل ذلك لم يحدث فيها قتال، وحتى القتال الوحيد الذي حدث في سرية نخلة كان قتالاً بسيطًا جدًّا بين عشرة من المسلمين وأربعة من الكفار.
لكن هذه القافلة كانت تختلف عن بقية القوافل في بعض الأمور المهمة:
أولاً: هذه القافلة من أكثر قوافل مكة مالاً، وضربها يمثِّل ضربة اقتصادية هائلة لمكَّة؛ ألف بعير مُوقَرَة بالأموال، لا تقل عن 50 ألف دينار ذهبي.
ثانيًا: هذه القافلة ليست بقيادة قائد مغمور من قواد مكة أو تاجر عادي من تجار قريش، وإنما هي بقيادة أبي سفيان بن حرب من سادة قريش ومن سادة بني أميَّة. ومن الواضح أن للقافلة عند قريش أهميةً بالغةً، ومن ثَمَّ جعلت لها حراسة مشددة وقوية مكوَّنة من ثلاثين أو أربعين رجلاً، في حين لم يكن على حراسة قافلة نخلة سوى أربعة رجال فقط.
ثالثًا: وهو الأهم، أن هذه القافلة تمرُّ بجوار المدينة في شهر رمضان، أي بعد شهر ونصف فقط من أحداث سرية نخلة، وموقف المؤمنين مع هذه القافلة يؤكِّد صلابة موقف المسلمين، واستمرارية حربهم ضد قريش، ويثبت أنهم ليسوا خائفين من آثار سريَّة نخلة، بل على العكس يعتبر هذا الخروج تأكيدًا لقوة المسلمين وتصميمهم، ولا شك أن هذا سيهزُّ كفار مكة.
ولذلك خرج الرسول بأكبر عدد من المسلمين إلى هذه اللحظة، فكل السرايا والغزوات السابقة لم يتجاوز عدد المسلمين فيها مائتين.
المسلمون في غزوة بدر كانوا 313 أو 314 أو 317 على اختلاف الروايات؛ ولذلك أيضًا خرج الأنصار ولأول مرة مع المهاجرين، بينما كانت الغزوات والسرايا التي قبل بدر كلها معتمدة كُلِّيَّةً على المهاجرين.
الرسول يستشير أصحابه في الخروج
كان خروج الأنصار برغبتهم وبشورى من رسول الله ، كما جاء في صحيح مسلم، وقد استشار رسول الله الناس في الخروج للقافلة، وأعلن الموافقةَ أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين، ومع ذلك أخذ الرسول يطلب المزيد من الرأي حتى قال سعد بن عبادة زعيم الخزرج: "إيَّانا تريدُ يا رسولَ الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخِيضَها البحر لأخضناها (أي الخيل)، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الْغِمَادِ لفعلنا". وخرج الأنصار وبعدد كبير[1].
الجيش الإسلامي في بدر
كان عدد الأنصار في بدر مائتين وواحدًا وثلاثين:
61 من الأوس
170 من الخزرج.
بينما كان عدد المهاجرين 83 فقط.
وتزود الرسول بسلاح المسافر، وأخذ معه فرسين وسبعين من الإبل، وقسَّم جيش المسلمين إلى مهاجرين وأنصار، وأعطى راية المهاجرين لعلي بن أبي طالب، وأعطى راية الأنصار لسعد بن معاذ، وأعطى الراية العامَّة للجيش لمصعب بن عمير، وجعل على الساقة في مؤخرة الجيش قيس بن صعصعة؛ فهو إعداد في منتهى القوة، ولا تنسَ أن ذلك الجيش يخرج لقافلة يحرسها ثلاثون أو أربعون رجلاً، وهذا يعني أن الجيش الإسلامي عشرة أضعاف حُرَّاس قافلة مكة تقريبًا.
المخابرات الإسلامية حدَّدت أن القافلة ستمر قريبًا جدًّا من بدر، وبدر على بُعد 70 كم جنوب المدينة، واتَّجه الرسول مباشرة إلى بدر؛ لكي يقطع الطريق على القافلة.
أبو سفيان ينجو بالقافلة
على الناحية الأخرى كان على رأس القافلة المكيَّة أبو سفيان بن حرب، واحدٌ من أذكى وأدهى العرب، وهو أيضًا له مخابراته، وقد استطاع أن يعرف أن الرسول خرج من المدينة المنورة قاصدًا القافلة، لكنه لا يعرف إلى أيِّ مكان وصل الرسول .
ولكنه لم يُضِع الوقت؛ فأرسل رسالة سريعة إلى مكة لاستنفار جيش مكة للخروج لإنقاذ القافلة، أرسل الرسالة مع ضمضم بن عمرو الغفاري.
وبسرعة كان ضمضم في مكة، ووقف على بعيره، وشقَّ قميصه، وبدأ في الصراخ على أهل مكة: "يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمدٌ في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ"[2].
قام الناس كلهم مسرعين، أخذوا الأمر في منتهى الجدية، فهم لم يفيقوا بعدُ من أزمة (سريَّة نخلة).
تكوين جيش المشركين
بدأت قريش في جمع المقاتلين من كل مكان، وعملوا على إعداد جيش على أعلى مستوى:
- ألف وثلاثمائة مقاتل من قريش، وما حولها من قبائل العرب. هناك ثلاثمائة رجعوا من الطريق.
- 100 فرس.
- 600 درع.
- إبل كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، ولكنهم كانوا ينحرون للطعام فقط تسعة أو عشرة من الجِمَال في كل يوم.
- خرج على قيادة الجيش كل زعماء الكفر تقريبًا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل، وعقبة بن أبي معيط، ولم يخرج أبو لهب بل أخرج واحدًا مكانه.
- جعلوا على رأس الجيش أبا جهل، فرعون هذه الأمة وسيِّد قريش.
إعداد ضخم لجيش خطير، تعاون الجميع لإخراج هذا الجيش الكبير.
إبليس يتعاون في إتمام المعركة
تعاون مع كفار قريش الشيطان الأكبر إبليس لعنه الله، فعندما قررت قريش الخروج خافت من غدر بني بكر بها، وكان بينهما خلاف قديم؛ فكاد ذلك يقعدها، فتمثَّل لهم الشيطان في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة فقال لهم: "أنا جارٌ لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه"[3]. فخرجوا جميعًا، والقصة سندها صحيح، ولها أكثر من طريق. وسبحان الله! كم من المرات التي لا يعلمها إلا الله ساعد الشيطان أولياءه في حرب المؤمنين!
لكن كيد الشيطان هذا لا يسمن ولا يُغني من جوع، إنْ كان الله مع الفريق الآخر {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
فكان الشيطان ممن دفع الكافرين للخروج إلى حتفهم في بدر.
أبو جهل نظير إبليس
كذلك فعل أبو جهل وهو من كبار شياطين الإنس؛ فقد ورَّط زعماء مكة جميعًا في الخروج، ودفعهم أيضًا بنفسه إلى حتفهم، وقصته مع أُمَيَّة بن خلف عجيبة، والقصة في صحيح البخاري.
أمية بن خلف وهو من عتاة الإجرام، كان صديقًا لسعد بن معاذ في الجاهلية، وفي أثناء زيارة سعد بن معاذ لمكة، قال سعد لأمية: إنه سمع رسول الله يقول: "إنهم قاتلوك".
فزع أمية بن خلف، وقال: بمكة؟
قال سعد: لا أدري.
ازداد رعب أميَّة، ورجع مسرعًا إلى أهله، وقال لزوجته: يا أم صفوان، ألم تَرَيْ ما قال لي سعد؟
قالت: وما قال لك؟
قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنهم قاتليَّ. فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة[4].
وهذه القصة تؤكِّد لنا أن أهل الباطل في يقين تامٍّ من داخلهم أن أهل الإيمان على الحق، وأن كلامهم صحيح لا خطأ فيه، حق لا باطل فيه، لكن الكبر والبطر يمنعهم من الإيمان، فلا بد لكل مؤمن أن يتأكَّد تمامًا أن عدوَّه من داخله على رعبٍ منه وفزع شديد، مهما كان ظاهره قويًّا، وجيشه كبيرًا، وأعوانه من الكثرة بمكان.
فعندما قرر جيش مكة الخروج خشي أمية أن يخرج؛ لأنه يعرف أن كلام رسول الله صدق. حضر إليه أبو جهل فقال له: يا أبا صفوان، إنك متى ما يراك الناس قد تخلفت وأنت سيِّد أهل الوادي تخلفوا معك. في البداية رفض أمية، لكن أبا جهل أرسل إليه عقبة بن أبي معيط، وعقبة -كما نعرف- مجرم بل من أكابر مجرمي مكة، فأحضر مِجْمَرة لعطر النساء ووضعها بين يدي أمية، وقال له: إنما أنت من النساء. قال أمية: قبحك الله! لكن مع إصرار سيد قريش أبي جهل وافق مضطرًّا، ومع ذلك دبَّر خطة لكي تنقذه من القتل، قرر أن يشتري أجود بعير في مكة؛ لكي يستطيع الهرب عليه. ورجع البيت يتجهز للخروج، فقالت له أم صفوان: يا أبا صفوان، أوَقَدْ نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، ما أريد أن أَجُوزَ معهم إلا قريبًا[5]. وفي أثناء الطريق قرر الرجوع أكثر من مرة، ولكنه فشل حتى وصل بدر، وكان مصيره الذي أخبر به رسول الله ، سبحان الله! {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطَّارق: 15- 16].
أحيانًا يكون رأس الباطل هو الذي يدفع جنده إلى الهلكة، استمع إلى الله يقول: {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
كان أبو جهل يعتقد أن هذا هو أفضل إعداد، وأنه قد مكر بالمسلمين، ولكن: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].