نظرة عامة على الجيشين
تحدثنا عن مقدمات الغزوة العظيمة، غزوة بدر، وذكرنا فروقًا هائلة بين صفات الجيش الذي ينصره رب العالمين، والجيش الذي يفتقر إلى أيِّ تأييد؛ الجيش المنصور جيش يؤمن بالله ويعمل له بكل ذرة في كيانه، والجيش المهزوم جيش كافر أو فاسق أو منافق أو عاصٍ لا يعمل إلا لمصالحه الذاتية وأهوائه الشخصية، لا يهمه إلا صورته أمام الناس. الجيش المنصور جيش متفائل يوقن بنصر الله له، والجيش المهزوم جيش محبط فاقد للأمل. الجيش المنصور جيش حاسم غير متردد، والجيش المهزوم جيش متردد جبان لا يَقْوى على أخذ قرار. الجيش المنصور يطبق الشورى فيما لا نص فيه، والجيش المهزوم جيش يطبق الدكتاتورية، لا يهتم إلا برأي الزعيم، ولا ينظر إلى القادة أو الشعب. في موقعة بدر كانت صفات الجيش المنصور موجودة بكاملها في جيش المدينة المؤمن، وكانت صفات الجيش المهزوم موجودة بكاملها في جيش مكة الكافر. ولم تكن هذه فقط هي صفات الجيوش المنتصرة والمهزومة، فما زال هناك صفات أخرى كثيرة، سنتعرف عليها من خلال الحديث عن يوم الفرقان.
دور الاستخبارات الإسلامية
اقترب الجيش المكي وعسكر في منطقة العدوة القصوى جنوب وادي بدر، وتقدم الجيش المسلم أيضًا من بدر في منطقة شمال بدر تسمَّى بالعدوة الدنيا. وأراد رسول أن يتيقن من أعداد الكفار وهيئتهم ومكانهم وقادتهم، فقام بعملية استكشافية هو وأبو بكر الصديق، واستطاعا بالفعل أن يعرفوا مكان جيش مكة، لكنه لم يستطع أن يعرف أعداد القوم وقادتهم، فأرسل فرقة استكشافية أخرى فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص . أمسكت الفرقة باثنين من الغلمان للجيش المشرك وأحضروهم للرسول ، والرسول بدأ في استجوابهم، قال : "أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ".
قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
قال: "كَمِ الْقَوْمُ؟"
قالا: كثير.
قال: "مَا عِدَّتُهُمْ؟"
قالا: لا ندري.
قال: "كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟"
قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا.
قال : "الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ وَالأَلْفِ". ثم قال: "فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟"
قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد.
فأقبل على المؤمنين وقال: "هَذِهِ مَكَةُ، قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا"[1].
وهكذا استطاع الرسول أن يعرف ما يريد من معلومات عن الجيش المكي.
وتُرجمت هذه المعلومات إلى تحركات سريعة؛ فأخذ رسول الله جيشه، واتجه إلى أرض بدر قبل عدوه؛ ليختار الأرض التي ستتم عليها الموقعة، وليضع جيشه في مواقع إستراتيجية داخل أرض الموقعة.
واختار الرسول مكانًا للنزول فيه في أرض بدر، واستقر رسول الله في هذا المكان، وكان ذلك ليلة بدر.
إيجابية الحباب بن المنذر
جاء إلى رسول الله الصحابي الجليل الحُبَاب بن المنذر الأنصاري، وهو من الخبراء العسكريين المعروفين بدقة الرأي وعمق النظرة، سأل الحباب رسول الله سؤالاً يعبِّر عن مدى فقهه لمبدأ الشورى.
قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فقال : "بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ".
قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل.
هذا ليس مناسبًا، هكذا بوضوح دون خجل ولا مواربة. الأمر خطير، والنصيحة مسئولية.
إذن، ما الرأي؟
قال الحباب: فانهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم (قريش)، فننزله ونغوِّر (أي نخرب) ما وراءه من القُلُب (جمع قليب، أي آبار بدر)، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم؛ فنشرب ولا يشربون.
فقال الرسول دون تردد: "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ".
وبالفعل غيَّر مكانه الأول، ونزل في المكان الذي أشار به الحباب .
ولنا وقفة مهمة مع إيجابية الحباب ؛ من الممكن أن نتخيل أن الصحابي عندما يرى الرسول فعل شيئًا، أيَّ شيء، أنه لن يفكر في أن يقول رأيه؛ لأنه من المحتمل أن يكون وحيًا، وحتى لو لم يكن وحيًا فمن الممكن أن يقول: إن الرسول أحكم البشر، وأفضل العالمين، ومن المؤكد أن رأيه البشريّ أحسن من رأيي، لكن هذا التصور عن الصحابة ليس صحيحًا.
فالصحابة كان لديهم إيجابية رائعة، لو رأى أحدهم شيئًا يعتقد أن هناك ما هو أولى منه أسرع مباشرة للإدلاء برأيه حتى لو لم يُطلب منه ذلك، وهو يدرك أن الرسول بشر، ويجري عليه في الأمور التي ليس فيها وحي، ما يجري على عامة البشر من اختيار صحيح في مرة وخطأ في مرة أخرى، أو على الأقل قد يختار خلاف الأَوْلى في أمر من الأمور، ويدرك الحباب أن الرسول هو القائل لهم قبل ذلك: "أَنْتُمُ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ"؛ وبذلك يفتح المجال الواسع لكل فكر، ولكل إبداع، ولكل إضافة. وبذلك تعمل كل عقول المسلمين لخدمة الأمة الإسلامية.
ولو حدث وكان رأي الحباب خطأً، فإن الرسول سيعرفه الصواب، ويكون قد تعلم شيئًا، أو على الأقل قاتَلَ وهو مقتنع بوجهة النظر الأخرى، وهذا يعود بنا لنقطة الشورى من جديد.
هكذا يُرينا مبدأ الشورى كيف يمكن أن نستفيد من طاقات المجتمع. كيف يمكن أن نستغل المواهب الهائلة التي وزَّعها ربنا I على خلقه بحكمة عجيبة.
لو هناك كبت لآراء الشعب ما كان الرسول قد عرف أين ينزل في بدر، ومن المؤكد أن هذا سيكون به ضرر، ليس فقط على الرسول ، لكن على الأمة كلها.
بعد النزول في المكان الذي حدَّده الحباب قام الصحابة بالإشارة على رسول الله بأمر اختلف الرواة في صحته، وهو بناء العريش أو مقر القيادة.
وسواء تم بناء هذا العريش أو لم يتم، فإن الثابت أن رسول الله لم ينعزل عن جيشه، ولكنه قاتل معهم بنفسه بل كان أقربهم إلى العدو كما يقول علي بن أبي طالب كما في رواية الإمام أحمد: "لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله ، وكان من أشد الناس، ما كان -أو لم يكن- أحدٌ أقرب إلى المشركين منه"[2].
نزول السكينة من الله
في ليلة بدر حدث أمران مهمان، وهما النعاس الذي غلب المسلمين في ليلة بدر، والمطر الذي نزل في نفس الليلة.
أما النعاس فعجيب، سبحان الله! المسلمون على بُعد خطوات من الجيش المكي الكبير، ومع ذلك يصلون إلى حالة من السكينة وهدوء الأعصاب التي تجعلهم ينامون في هدوء.
عندما يكون الإنسان مشغولاً بشيء مهم فإنه لا يعرف النوم -وهو في بيته في منتهى الأمان- فما بالك بإنسان نائم في أرض المعركة، ومشغول بمعركة من الممكن أن تكون فيها نهايته؟!
هدوء أعصابٍ عجيب! لا يفكر في عدد أعدائه، ولا يفكر في طريقة القتال، ولا يفكر فيما سوف يجري في هذه المعركة الرهيبة، ولا يفكر في تجارته، ولا يفكر حتى في أولاده وزوجته، ولا يفكر حتى في نفسه. نائم في منتهى الراحة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11].
في هذه الليلة نام الجميع اطمئنانًا، والوحيد الذي لم ينم كان رسول الله فقد ظل طوال الليل يدعو ويناجي ربه.
على الجانب الآخر كان جيش مكة لا يعرف للنوم سبيلاً، قَلِق، حيران، فغدًا موقعة مرعبة بالنسبة له.
ثم هو غير مقتنع بالحرب أصلاً، ولماذا أحارب؟ من أجل هُبَل واللات والعُزَّى، أم من أجل القائد الزعيم أبي جهل، أم من أجل القافلة؟ القافلة قد عبر بها أبو سفيان إلى بر الأمان، فلماذا القتال ومن المحتمل أن أموت، أَنْفُس مضطربة خائفة تعيش حالة من الفزع والرعب والخوف، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
المطر أيضًا في ليلة بدر كان عجيبًا.
منطقة بدر كلها منطقة صغيرة جدًّا، وادي صغير.
سحابة واحدة صغيرة من الممكن أن تغطي الوادي كله.
ونزل المطر في ليلة بدر على أرض بدر، في هذه المساحة الصغيرة، ولعله من سحابة واحدة. ولكنه -ويا سبحان الله- نزل هينًا لطيفًا خفيفًا على المسلمين، ونزل وابلًا شديدًا معوِّقًا على الكافرين.
شرب المسلمون واغتسلوا وتماسك الرمل في معسكرهم فثبتت أقدامهم، وذهبت عنهم وساوس الشيطان والتي كانت قد أتت إلى بعضهم بسبب الجنابة وقلة الماء، ولم تكن آية التيمم قد نزلت بعدُ {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].
أما الكفار فقد كوَّن المطر عندهم مخاضة كبيرة منعت تقدمهم، وأعاقت حركتهم. ليس لأحدٍ بحرب الله طاقة!
صباح يوم بدر
الرسول يجأر إلى الله بالدعاء
أول كلمات رسول الله في ذلك اليوم كانت دعاءً لرب العالمين؛ دعا أمام الناس جميعًا ليذكرهم بالله الذي بيده النصر والتمكين.
قال : "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلاَئِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ"[3].
هذا الدعاء ظل معنا طوال رحلة بدر.
والرسول خارج من المدينة لبدر كان يدعو لجنوده من المؤمنين، يقول كما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو: "اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ"[4].
وقبل القتال كان يقول الدعاء الذي ذكرناه منذ قليل.
وأثناء القتال كان شديد الابتهال إلى ربه، كان يرفع يده إلى السماء ويستقبل القبلة ويقول: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ"[5].
واستمر في دعائه وهو رافع يده حتى سقط رداؤه من على كتفيه، حتى أتاه الصديق فرفع الرداء من على الأرض، وألقاه على كتف الرسول وقال له برقة، وهو يمسك بكتفيه :
يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربّك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك[6].
انظر وتخيل طول الدعاء وطريقة الدعاء التي تجعل أبا بكر يشفق على الرسول من كثرة الدعاء، ويقول له: كفى.
الدعاء المستمر لم يكن من الرسول فقط، بل كان من الجيش كله، الجيش كله كان شديد الصلة بالله I؛ لذلك يقول ربنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9].
الاستغاثة بالله كانت من الجميع، وكل هذا يؤكد على أهم صفة من صفات الجيش المنصور التي تكلمنا عنها، وسنتكلم عنها في كل موقعة انتصر فيها المسلمون.
وهي صفة الإيمان بالله I، والاعتقاد الذي لا ريب فيه أنه هو الذي ينصر ويُمَكِّن ويعزّ ويرفع {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].
كان هذا دعاء الفريق المؤمن.
وأبو جهل يدعو أيضًا!!
لكن الغريب فعلاً أن الكفار أيضًا كانوا يدعون، وعلى رأس الذين كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء كان أبو جهل.
في الحقيقة كنت أتعجب كثيرًا عندما أقرأ دعاء أبي جهل يوم بدر؛ فقد كان يقول: "اللهم أقطعَنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأَحِنْه الغداة، اللهم أيُّنا كان أحبَّ إليك، وأرضى عندك، فانصره اليوم"[7].
الحقيقة كنت أتعجب؛ لأن كتب السيرة تنقل إلينا أكثر من مرة مواقف في فترة مكة تثبت أن أبا جهل كان يعرف أن القرآن الكريم معجز، ويعرف أن الملائكة تحرس النبي .
يعرف كل ذلك بوضوح، ومع ذلك فهو الآن يدعو وبصوت يسمعه الجميع أن ينصر اللهُ الأحبَّ إليه.
شيء عجيب!!
تفسير هذا الدعاء من أبي جهل يحتمل أمرين في رأيي:
الأمر الأول: أنه يصنع نوعًا من التحفيز المعنوي لجنوده.
كثيرون من جنود الباطل يشعرون بالضعف؛ لتفاهة قضيتهم، وشعورهم المستمر أن المسلمين معهم قوة أكبر من قوى البشر؛ فيأتي القائد لهم، زعيمهم في الضلال، ويوهمهم أنهم على حق، وأن مهمتهم سامية، وأنهم يعملون لخير المجتمع والوطن، بل العالم! بل وقد يقنعهم كما يفعل الآن أبو جهل أن ما يقومون به من قتال الآن هو جزء من الدين، وأنهم متدينون مخلصون متبعون للإله، كما يقول ربنا في حق فرعون: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79].
وكما قال فرعون نفسه: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
يحاول أن يقنعهم أن كل الإجرام الذي يقوم به هو والطواغيت من أمثاله، ما هو إلا خير وهدى ورشاد وإصلاح.
وهذا الكلام نراه كثيرًا، سواء في طواغيت الماضي أو طواغيت الحاضر، كلهم يقولون إنهم مصلحون.
إذن هذا هو الأمر الأول: خداع الناس بأنهم على خير ودين.
الأمر الثاني: وهو أن الطاغية بعد أن يظل يقنع الناس يومًا واثنين وعشرة، وسنة واثنتين وعشرة أنه مصلح ومتدين وأخلاقه عالية، يصدق نفسه، والبطانة التي حوله تقنعه أنه فعلاً متدين وعبقري ومصلح ومؤدب وخَيِّر وطيب ورحيم.
يصدق الطاغية نفسه، ويصدق من حوله من أعوانه، فيصير مقتنعًا فعلاً أنه على صواب.
وهذه مرحلة في منتهى الخطورة.
هذه مرحلة العمى، عمى البصيرة، لا يرى فعلاً الحق من الباطل.
لا يستطيع أن يميز الصواب من الخطأ.
في المرحلة الأولى كان يميِّز الصواب من الخطأ، لكنه كان يفعل الخطأ لهوى في نفسه، أو لمصلحة، أو لهدف.
الآن لم يعُدْ قادرًا على الرؤية {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].
على العيون غشاوة تحجب الرؤية تمامًا {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7].
وفي الآذان عازل يمنع السمع كُلِّيَّة {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80].
وعلى قلوبهم أغلفة سميكة تمنع وصول أيّ موعظة أو عبرة {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 46].
إذن، فالطواغيت والمجرمون يمرون بمرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة خداع الآخرين لأجل تحقيق مصلحة معينة، وفيها يستطيع أن يميز الحق من الباطل، لكنه يختار الباطل؛ لهوًى في نفسه.
المرحلة الثانية: هي مرحلة الطمس على البصيرة، وفيها لا يستطيع أن يميّز الحق من الباطل؛ وبالتالي يفتقد أيَّ إمكانية للهداية.
وبديهي أن الذي يدخل في هذه المرحلة الثانية لا يكون إلا من عتاة الإجرام، وأصحاب التاريخ الطويل في الصدِّ عن سبيل الله.
وهذا التحليل أعتقد أنه يفسر لنا كلماتٍ كثيرة جدًّا نسمعها من طواغيت ومجرمين، ومعذِّبين لغيرهم، وناهبين للمال، وهاتكين للأعراض، ومستبيحين للحرمات، ومع ذلك يتكلمون عن الفضيلة والشرف والأمانة والإصلاح.