في ميدان المعركة
إنها ساعة الصفر، الجيشان أمام بعضهما، وحينها قام رجل من المشركين اسمه الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو ليموتَنَّ دونه.
انظر كيف يمكن أن يكون حجم الضلال، كفاح وتضحية واستعداد للموت من أجل قضية فاسدة {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر: 8].
وقام الرجل ليبرَّ بقسمه، لكن قابله الأسد حمزة بن عبد المطلب وضربه ضربة قطعت ساقه، ومع ذلك -سبحان الله- فقد كان الرجل مصرًّا على الوفاء بقسمه، وزحف على الأرض ليصل إلى ماء بدر، لكن حمزة أدركه وقتله قبل أن يصل إلى مراده.
كانت هذه نقطة مهمة جدًّا لصالح المسلمين، وليس المهم مَن هذا الشخص الذي قتل، ولكن المهم أن هذا حدث في أول دقيقة من المعركة، فكان هذا توفيقًا كبيرًا من رب العالمين، رفع معنويات المسلمين، وأحبط معنويات الكافرين.
المبارزة قبل المعركة
تحرك الغيظ في قلوب زعماء الكفر.
فنهض ثلاثة من الزعماء بأنفسهم يطلبون المبارزة مع ثلاثة من المسلمين، وكانت هذه عادة في الحروب القديمة، أن يتبارز أفراد قلائل كنوع من الاستعراض، ثم يبدأ الهجوم العام الشامل بعد ذلك.
من الذي قام من الكفار؟ أمر عجيب.
لقد قام ثلاثة من عائلة واحدة!
قام عتبة بن ربيعة القائد القرشي الكبير، وقام أخوه شيبة بن ربيعة القائد القرشي الكبير أيضًا، وقام ابن أخيه الوليد بن عتبة أحد فرسان قريش المشهورين.
هذه مجموعة من أفضل فرسان مكة.
لكن العجيب الذي يلفت النظر هو قيام عتبة بن ربيعة.
عتبة بن ربيعة كان من الحكماء المعدودين في قريش، وكان من أصحاب الرأي السديد في أمور كثيرة، وكان يدعو قريشًا أن تخلي بين رسول الله وبين العرب، ولا يقاتلوه، وكان يقول إن هذا الرجل ليس بشاعر ولا كاهن ولا ساحر ولا بكاذب، وكان يرفض فكرة القتال في بدر بعد إفلات القافلة، وكان إلى آخر لحظة يجادل المشركين في قضية القتال، لدرجة أن الرسول نظر إليه من بعيد قبل بدء المعركة، وكان عتبة يركب جملاً أحمر، فقال لأصحابه: "إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا"[1].
لكن القوم لم يطيعوه، وأصرُّوا على القتال.
وللأسف الشديد! دخل عتبة معهم المعركة ولم يرجع كالأخنس بن شريق. وللعجب الشديد، خرج في أول من خرج للمبارزة والقتال.
لقد كان عتبة بن ربيعة مصابًا بمرض الإمَّعِيَّة.
حكيم في الرأي، ولكن يسير مع الناس، إذا أحسنوا أحسن، وإذا أساءوا أساء، ضعيف الشخصية، مهزوز، متردد.
وهذا الذي أَرْداه فأصبح من الخاسرين. وهذا النموذج نراه كثيرًا: أشخاص ذوو رأي سديد، تُعقد عليهم الآمال في تغيير مَن حولهم، ولكنهم يخيبون تلك الآمال، ويسيرون مع التيار؛ فيهلكون.
خرج الفرسان الثلاثة يطلبون القتال، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار.
لكن الفرسان المشركين قالوا: لا حاجة لنا بكم، إنما نريد أبناء عمِّنا.
نريد قتالاً قرشيًّا قرشيًّا.
فقال رسول الله :
قم يا عبيدة بن الحارث (عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه).
قم يا حمزة (عمه).
قم يا علي بن أبي طالب (ابن عمه).
وانتبهوا لهذا الاختيار، كلهم من الأقربين، مع أن القتال خطير، لكن القائد وعائلته يعيشون حياة الناس تمامًا، ويتعرضون لكل مشاكل الأمة، وفي أوائل المضحين والمجاهدين.
وبدأت المبارزة!
يوجد اختلاف في الروايات حول مَن بارز مَن؟ لكن رواية أحمد وأبي داود تقول: إن علي بن أبي طالب بارز شيبة، وإن حمزة بارز عتبة، وإن عبيدة بن الحارث بارز الوليد بن عتبة[2].
والتقت السيوف، واحتدم الصراع، وارتفعت الآهات، ثم بدأت الدماء تسيل بل تتساقط الأشلاء.
دقائق معدودة وانتهت الجولة الأولى من الصراع، ومرة ثانية لصالح المسلمين.
الله أكبر، ولله الحمد!
علي بن أبي طالب قتل شيبة.
وحمزة بن عبد المطلب قتل عتبة، لم تنفع عتبةَ حكمتُه.
وأصيب عبيدة والوليد بإصابات بالغة، فانطلق عليٌّ وحمزة على الوليد بن عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين.
في أول وقود للمعركة أربعة قتلى للمشركين.
واشتعلت أرض بدر بالقتال.
هجوم شامل كاسح في كل المواقع.
صيحات المسلمين ترتفع بشعارهم في ذلك اليوم: أَحَدٌ أَحَد.
صليل السيوف في كل مكان، والغبار غطَّى كل شيء.
الصدام المروع الذي يحدث للمرة الأولى بين المسلمين والكافرين.
التربية بالجنة
ومع كل الحماسة التي كان المسلمون فيها إلا أنهم ما زالوا في حاجة للتشجيع والتحفيز أكثر وأكثر؛ لأن الموقف صعب، بل غاية في الصعوبة، هنا يأتي دور التحفيز بشيء، ليس هناك مؤمن واعٍ فاهم يكسل أو يتعب عندما يسمعه.
جاء وقت التذكير بالجنة.
رفع رسول الله صوته ليُسمِع الجميع: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إَلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"[3].
الكلام عجيب، هذا الكلام لا يمكن أن يفهمه علماني، ولا يمكن أن يفهمه كافر أو فاسق.
الكلام عجيب؛ لأن الرسول لم يحفز الناس على الدفاع عن حياتهم، بل حفزهم على فَقْد حياتهم.
يا الله! انتبه لهذا القول: "لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا".
من كان يعيش لدنيا، وقُتِل فَقَدَ كل شيء.
لكن من كان فاهمًا لمعنى الجنة سيكون للقتل عنده معنى آخر، ولكن الجنة ليست على الأرض.
الجنة تأتي بعد الموت، يعني الموت هو الحاجز الوحيد بين الشهيد الذي يقتل في أرض القتال، وبين الجنة.
الموت هو الحاجز الوحيد لو عبرناه دخلنا الجنة.
الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.
فلو جاء الموت صِرْنا من أهل الجنة. إذن يا ليت الموت يأتي.
سبحان الله!
الموت المكروه عند عامَّة البشر، يصبح أمنية بل أسمى الأماني لمن فَقِه حقيقة الجنة.
- "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ". رواه البخاري عن أبي هريرة.
- وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله : "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدِّهِ (سوطه) فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا (ما بين السماء والأرض أو ما بين المشرق والمغرب)، وَلَنَصِيفُهَا (خمارها) عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
لا يمكن للإنسان أن يكون عنده يقين في هذا الكلام؛ ثم لا يشتاق إليه.
لذلك فالجيش المنصور جيش يحب الموت فعلاً.
كلمة خالد بن الوليد المشهورة التي ذكَّرناكم بها قبل ذلك: "جئتكم برجال يحبون الموت، كما تحبون أنتم الحياة".
وعندما تكلم الرسول عن الأمة المهزومة ذكر من صفاتها الوَهْن.
فسُئل: وما الوهن؟
فقال: "حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموت"[4].
فلو وُجِد هذا في نفوس الأمة هُزِمَت، ولو أحبت الأمة الموت وُهِبَت النصر، ووهبت الجنة.
إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الراحل كان يقول تعليقًا على اتهام اليهود له بعدم القدرة على السيطرة على حماس والجهاد؛ قال: أتحدى أيَّ جهاز مخابرات في العالم يقاوم أُناسًا يريدون أن يموتوا.
كلام في منتهى الدقة.
حقًّا من المستحيل أن تقاتل إنسانًا يريد أن يموت.
بم ستخيفه؟ هل ستقول له: سأقتلك؟
هذا هو ما يريده. بل هو خائف ألا يموت.
هل منا من يريد أن يموت؟!
يتمنى الموت؟!
يبحث عن الموت؟!
هل منا أحد جاهز للموت؟!
كتب وصيته؟!
يفكر في يوم يموت فيه في سبيل الله؟!
لو أنك لا تتمناها ولا تبحث عنها، فأنت لا تعرف الجنة.
هذا الكلام ليس كئيبًا، ولا حزينًا.
الكئيب فعلاً أن تقف يوم القيامة تنتظر الحساب يومًا واثنين، وسنة واثنتين، وأنت ترى الشهداء حولك يُسرِعون إلى الجنة من غير حساب.
ولا تقل: أين الجهاد؟ وأين القتال؟
المسألة مسألة صدق، ومسألة نيَّة.
تريد أم لا تريد؟
لو أردت ستنال الأجر، وتدخل الجنة وإن متَّ على فراشك.
"مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"[5].
ولو لم تُرِدْ فلن تنال أجر الشهادة، حتى لو فُتِحَ لك ألف باب للجهاد.
المسألة إنما هي صدق النية مع الله تعالى.
من مواقف الصحابة في بدر
موقف عمير بن الحمام في بدر
انظروا، ماذا فعلت الجنة في الصحابة في بدر.
عمير بن الحمام يقف بجانب الرسول ، والرسول يقول: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَواتُ وَالأَرْضُ".
كم مرة سمعنا هذه الكلمات؟
كثيرًا.
كم مرة عملنا لها؟
قليلاً.
عمير بن الحمام سمع هذه الكلمة، فقال متعجبًا: عرضها السموات والأرض!!
الإنسان منا يكافح سنين طوالاً لكي يصبح عنده شقة، أو سيارة، أو بعض الأموال، أو بعض السلطات.
كل هذا لا يمثل واحدًا على مليون مليون من الأرض.
فكيف بالجنة التي عرضها السموات والأرض؟! ما شكلها؟!
عمير يتعجب: عرضها السموات والأرض!
قال : "نَعَمْ".
سبحان الله! هكذا في منتهى الإيجاز.
لا شرح ولا تفصيل.
وعمير بن الحمام يتلقى بمنتهى اليقين، لا جدال، لا محاورة.
قال عمير: بَخٍ بَخٍ (كلمة للتعجب).
قال له : "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟"
ممَّ تتعجب؟ أتشك في هذا الكلام؟
أسرع عمير يقول: لا والله يا رسول الله، ما قلتها إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال : "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا".
يا الله!
عمير يعلم أنه من أهل الجنة، وهو ما زال يمشي على الأرض، أرض بدر.
بينه وبين الجنة فقط أن يموت.
لم يعُدْ قادرًا أن يعيش لحظة واحدة على الأرض.
كان يمسك بيديه بعض تمرات يتقوَّى بها على القتال.
وبعدها فكَّر.
أيُّ تمرٍ هذا الذي أريد أن آكله؟!
أين ثمار الجنة، وطيور الجنة، وشراب الجنة، وحوض الرسول في الجنة؟
فألقى بالتمرات على الأرض، وقال كلمة عجيبة؛ قال:" لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة"[6].
أَكْلُ التمرات حياة طويلة!!
هل سأنتظر ثلاث أو أربع دقائق آكل فيها التمر؟ هذا كثير.
ألقى بنفسه وسط الجموع الكافرة.
استشهد، دخل الجنة، هو -يقينًا- في الجنة.
أليس هذا كلام الرسول "لاَ يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ؛ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"؟!
ثم إنه قالها تصريحًا لعمير بن الحمام، قال: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا".
أهل الدنيا، طلاب الدنيا يظنون أن عميرًا خسر، مات في عزِّ شبابه كما يقولون، لم يستمتع بحياته، لكن المقاييس الصحيحة ليست هكذا
روى الترمذي -وقال: حسن صحيح- عنكعب بن مالك قال: قال رسول الله :
"إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَعْلَقُ[7] مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ"[8].
موقف عمير بن أبي وقاص
- عمير بن أبي وقاص شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، في تعريف منظمة الصحة العالمية طفل (الأطفال في تعريفهم أقل من 18 سنة).
وفي تعريف القيم والأخلاق والمبادئ والعقائد من سادة الرجال.
تقدم وهو في هذه السن الصغيرة؛ ليجاهد مع المجاهدين في بدر، لكنه كان خائفًا.
من أيِّ شيء كان خائفًا؟ هل يخاف أن يموت؟ لا، بل يخاف ألا يموت.
يخاف أن يرده الرسول ؛ لأنه ما زال صغيرًا.
أخذ يتوارى بين القوم حتى لا يراه الرسول فيرده.
رآه أخوه المجاهد العظيم سعد بن أبي وقاص .
فقال له: ما يحملك على هذا؟
قال: أخاف أن يراني رسول الله فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج؛ لعل الله أن يرزقني الشهادة.
رآه الرسول ، فأشفق عليه من القتال، وردَّه.
بكى عمير ؛ فستضيع عليه فرصة الموت في سبيل الله.
ولكن رقَّ له رسول الله ، وسمح له بالجهاد[9].
جاهد، اشتاق بصدق للشهادة، استشهد، دخل الجنة.
فَهِم عمير بن أبي وقاص وهو لم يُكَلَّفْ إلا منذ سنتين أو ثلاث، وهو لم يبلغ السادسة عشرة من عمره، ما يعجز عن فهمه أشياخ وحكماء وعباقرة.
الجنة!
منهج تربوي إصلاحي واقعي، لا يرقى إليه أيّ منهج من مناهج الدنيا.
موقف عوف بن الحارث
- عوف بن الحارث سأل رسول الله : يا رسول الله، ما يُضحك الرب من عبده؟ قال: "غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا"[10].
هنا ألقى عوف درعه وقاتل حاسرًا.
هذا الفعل يلقي الرعب في قلوب العدو؛ لأنه يعبر عن إنسان لا يهاب الموت بل يطلبه.
قاتل عوف وقاتل وقاتل، حتى قُتِل، اُسْتُشهد، دخل الجنة.
موضوع الجنة لم يغب أبدًا عن أذهان الصحابة ؛ لذلك انتصروا.
من قبل أن يأتي الجيش بدرًا وهو يبحث عن الجنة.
وفي أرض بدر يبحث عن الجنة.
وبعد بدر يسأل عن الجنة.
موقف سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة
- قبل الخروج إلى بدر سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة.
الاثنان يريدان أن يخرجا للجهاد في بدر، لكن عندهما بنات كثيرات، ولا بد أن يخرج أحدهما، بينما يبقى الآخر ليرعى البنات.
الاثنان يريدان أن يخرجا، الاثنان طالبان للجنة بصدق، لم يرضَ أحدهما بالتنازل، فقررا إجراء قرعة، فخرج سهم الابن سعد بن خيثمة، تحسَّر أبوه، تحسر حسرة حقيقية، فقال لابنه برجاء: يا بُنيَّ، آثرني اليوم. دعني أخرج، فَضّلني على نفسك، أنا أبوك؛ لكن سعدًا ردَّ بجواب يفسر قصة الجيش المنصور، قال في أدب: يا أبتِ، لو كان غير الجنة فعلت[11].
أيُّ شيء في الدنيا يمكن أن أتنازل عنه لك، إلا الجنة.
وإلا فلماذا أحيا أنا في هذه الدنيا، لو لم يكن للحصول على الجنة؟
لا يمكن أن أضيع هذه الفرصة.
وخرج سعد بن خيثمة بهذه الروح، وهذا الصدق.
وقاتل سعد بن خيثمة، واستشهد، ودخل الجنة التي يريد.
اللطيف والجميل أن خيثمة أبوه، خرج في (غزوة أُحُد) بعد بدر بسنة، واستشهد أيضًا، أترون الصدق؟
وحتى بعد بدر، كل الناس يسألون عن الجنة.
الشعب كله طالبٌ الجنة.
موقف أم حارث بن سراقة
- أم حارثة بن سراقة استشهد ابنها حارثة في بدر، شاب صغير مات مقتولاً في مثل هذا الموقف، تطيش عقول، وتضطرب أفئدة، ويتزلزل رجال ونساء.
لكن أم حارثة جاءت تسأل عن شيءٍ محدَّد.
يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تَرَ ما أصنع.
أهمُّ أمرٍ بعد الموت: جنة أم نار؟ هذا هو المفروض أن يشغلنا.
فقال لها رسول الله :
"يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى"[12].
الله أكبر! لماذا؟ لأنه مات صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر.
استراحت أم حارثة، تقبلت أمر موت ابنها الشاب ببساطة وبصبر وباحتساب، بل بسعادة؛ لأن من يحب أحدًا يحب له الخير. ولا خير أحسن من الجنة.
هؤلاء هم أهل بدر، صفاتهم الجميلة كثيرة، لكن أهمها أنهم جيش مؤمن فعلاً، مؤمن بالله، ومؤمن بالرسول ، ومؤمن بالجنة، ومن غير الإيمان مستحيل أن يكون هناك نصر.
حب الجنة منهج تربوي
صورة لحديقة معبر عن الجنة ومكتوب "حب الجنة منهج تربوي"
هذا الكلام لا نقوله كنوع من الترف الفكري، أو القصص التاريخي الذي ليس له واقع في حياة الناس.
هذا الكلام نريد أن يصبح منهج حياتنا، منهج تربية الأطفال والرجال والنساء، منهج تربية الشعب كله.
وبدونه لا توجد فرصة إصلاح.
دعكم من مناهج الشرق والغرب، ومناهج الإصلاح الوهمية المبنية في الأساس على طلب الدنيا وبأيِّ وسيلة.
هذه المناهج لا تُورِث إلا كآبةً وتعاسةً في الدنيا، وشقاءً وذلاًّ في الآخرة.
إياكم أن تظنوا أن الغرب والشرق من أصحاب المال والسلطة والجاه والملك يعيشون في سعادة.
أبدًا!!
فمَنْ يفقد منهم ماله ينتحر.
من يمت له ابن أو حبيب يكتئب، وينعزل عن المجتمع.
من يتعرض لمصيبة تصبح نهاية العالم بالنسبة له. من وجد نفسه فقيرًا، أو من عائلة صغيرة، أو في وضعٍ اجتماعي متدنٍّ، فإنه يعيش معقَّدًا حاقدًا على المجتمع، حاسدًا لكل الأغنياء، ومن الممكن أن يصير سارقًا أو قاتلاً أو مرتشيًا أو فاسدًا، ويعيش حياة الإجرام.
روى الحاكم عن أنسٍ أن رجلاً أسود أتى النبي ، فقال: يا رسول الله، إني رجل أسود، منتن الريح، قبيح الوجه، لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل، فأين أنا؟ قال: "فِي الْجَنَّةِ". فقاتل الرجل حتى قُتِل، فأتاه النبي فقال: "قَدْ بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَكَ، وَطَيَّبَ رِيحُكَ، وَأَكْثَرَ مَالَكَ". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم[13].
أقلُّ أهل الجنة ملكًا له عشرة أمثال الدنيا، إذن لا مقارنة بين نعيم الجنة ومتاع الدنيا كلها.
الجنة فيها سلوى وتعويض لكل مؤمن فَقَدَ شيئًا من الدنيا.
الجنة فيها جزاء لكل من تعب، أو سهر، أو بذل مجهودًا في الإصلاح.
الجنة صبرَّت أم حارثة.
الجنة شجَّعت عمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص، وسعد بن خيثمة، وحارثة بن سراقة. الجنة جعلت الحباب بن المنذر يقول رأيه لكي يفيد المسلمين.
الجنة جعلت المكروه محبوبًا، جعلت الموتَ مطلوبًا.
انظر ماذا قال الرسول لأصحابه ولنا:
"أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا (أي: لا مثل لها)، هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فِي مَقَامٍ أَبَدًا، فِي حَبْرَةٍ ونَضْرَةٍ، فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ".
الصحابة لم يعودوا قادرين على الصبر على فراق الجنة.
قالو: يا رسول الله، نحن المشمرون لها.
قال: "قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".
ثم يقول الراوي أسامة بن زيد رضي الله عنهما: ثم ذكر الجهاد وحضَّ عليه[14].
إذن أعطاهم الرسول شيئًا عمليًّا يدخلون به الجنة. والحديث في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه.
يوم تملأ الجنة علينا حياتنا بهذه الصورة.
يوم تصبح الجنة هدفًا واضحًا في تفكيرنا.
يوم تصبح الجنة في عقلنا عندما نأخذ قرارًا، أو نعمل عملاً، أو نقول كلمة، أو نضحك ضحكة، أو نسافر أو نقعد، أو نحب أو نكره.
يوم تصبح الجنة محرِّكًا لكل حياتنا.
ساعتها سنرى نصرًا كنصر بدر.
وساعتها سنرى تمكينًا وعزة وسيادة، كما حدث بعد بدر.
ونسأل الله أن يفقهنا في سننه.