أبو سفيان بن حرب يدعو قريشًا للرجوع
خرج جيش مكة الذي أعده رأس الكفر أبو جهل لعنه الله، لكن في الطريق وقبل أن يصلوا إلى بدر وصلتهم رسالة ثانية من أبي سفيان بن حرب، يقول فيها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا.
والقصة أن أبا سفيان اكتشف تحركات الجيش المسلم، وعرف أنه سينتظر في بدر، وبسرعة غيَّر اتجاهه ناحية الغرب، وسار على ساحل البحر الأحمر وأفلت بالقافلة، وأبو سفيان كان يرى أنه لا داعي للدخول في صدام دون إعداد جيد، والأفضل تدبير أمر الجيش بتروٍّ. هذه الرسالة وجدت هوًى في قلوب معظم الجيش المكي، أمية بن خلف وغيره، كان الكل يريد الرجوع، لكن أبا جهل قام لهم يدفعهم دفعًا، كما دفع فرعون جنده للدخول في البحر خلف موسى ؛ قال أبو جهل للجيش: "والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا (كعادة الجيوش المنتصرة)، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتعزف القيان (المطربات)، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا"[1].
انقسام في الجيش المكي
برغم إصرار أبي جهل إلا أن مجموعة من المشركين انشقَّت عن الصف ورفضت إكمال الطريق، وكان يقود هذه المجموعة الأخنس بن شريق، وأخذ معه بني زهرة بالكامل وكانوا ثلاثمائة رجل وعاد بهم. والانقسامات داخل حزب الباطل نصرٌ كبير للمؤمنين.
أصبح تعداد الجيش المكي ألف مقاتل، وأكمل هذا الجيش الطريق حتى نزل قريبًا من بدر عند مكان يعرف بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر.
عودة إلى الجيش المؤمن
نقلت الاستخبارات الإسلامية خبرين في منتهى الأهمية:
الخبر الأول: هروب القافلة.
الخبر الثاني: جيش مكة على مقربة من بدر.
أصبح الوضع الآن من الخطورة بمكان، فإعداد المسلمين كان قويًّا جدًّا بالنسبة لقافلة تجارية، لكنه ضعيف جدًّا بالنسبة لجيش نظاميّ خرج مستعدًّا للقتال، ماذا نفعل؟!
لا يوجد إلا أحد خيارين: الرجوع إلى المدينة وتجنُّب القتال، أو التقدم إلى بدر والصدام المروع.
ومن الآن كل موقف سيحمل ملمحًا من ملامح النصر، كل موقف ستكون فيه إشارة إلى عامل من عوامل نصر الأمة. نحن قلنا: إن كل صفات الجيش المنتصر اجتمعت في جيش بدر، وأيُّ جيل مسلم يريد أن ينتصر لا بد أن يعرف صفات جيش بدر كاملة، ولا بد أن يستوعب سورة الأنفال جيدًا، السورة التي تحدثت عن غزوة بدر.
أصبح أمام رسول الله أحد خيارين: الرجوع أو القتال؛ من داخله هو يريد القتال، فالرجوع له آثار سلبية كبيرة؛ الرجوع سيهزُّ صورة المسلمين جدًّا، وسيضيِّع مكاسب سرية نخلة، وسيشجع الكفار على التمادي في الحرب على المسلمين، فكلما يرجع المسلم خطوة يحتلها عدوه، ولا يُستبعد مطلقًا إذا رجع الجيش المسلم أن يستمر الجيش المكي في المسير ويغزو المدينة، وساعتها سيكون الخطر أكبر. لكن في الوقت نفسه لم يكن رسول الله قائدًا دكتاتورًا كأبي جهل، فالقائد الدكتاتور يعتقد في داخله أن رأيه فقط هو الرأي الصحيح، وأنه يفهم في كل المجالات، ومن ثَمَّ فلا داعي لأن يضيِّع وقته ووقت شعبه في أيِّ استشارات، لكن الرسول لم يكن كذلك أبدًا.
تطبيق مبدأ الشورى
رسول الله كان يستشير أمته في كل القضايا التي لم ينزل فيها وحي، طبعًا إذا كان هناك أمر من الله في قضية من القضايا لا يجوز للمسلمين أن يتشاوروا في تطبيق الأمر من عدمه، لكن إذا لم يكن هناك أمر من الله، فلا بد من الشورى، فكل تحركاته كانت بشورى، عندما خرج من المدينة للقافلة خرج بشورى، وعندما قرَّر أن يحارب لم يحارب إلا بشورى، وسنرى الشورى في مواضع أخرى كثيرة في بدر. إذن نستطيع أن نقول ببساطة: إن من أهم ملامح الجيش المنتصر، أنه جيش يعظّم الشورى، الشورى الحقيقية، وليست التمثيليات الهزلية على الشعب، بل شورى حقيقية تهدف إلى قرار يصلح الأمة.
عقد الرسول مجلسًا استشاريًّا كبيرًا، تبادل فيه الرأي ليس فقط مع قادة الجيش ولكن مع عامة الجيش، فالقضية خطيرة. قام المستشار الأول لرسول الله أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام المستشار الثاني عُمَر بن الخطاب فقال نفس الكلام، ثم قام المقداد بن عمرو وقال كلامًا رائعًا، هذا الكلام الذي قاله المقداد علَّق عليه عبد الله بن مسعود بعد ذلك وقال: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا، لأن أكون صاحبه أحبُّ إليَّ مما عدل به"[2]. أي أنه ليس هناك موقف أحسن من ذلك الموقف.
موقف المقداد بن عمرو وسعد بن معاذ
قال المقداد بن عمرو : "يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ"[3].
رسول الله سُرَّ كثيرًا بكلام المقداد، ومن قبله بكلام أبي بكر وعمر، لكنه ما زال يطلب الاستشارة ويقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس"[4].
وقد كان رسول الله في مواقف كثيرة يكتفي باستشارة أبي بكر وعمر، ويقول: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما"[5]. ولكنه هنا ما زال ينتظر استشارة، وحتى بعد كلام المقداد، فلماذا؟
الرسول لم يسمع رأي الأنصار، الأنصار قبل ذلك في المدينة أعلنوا موافقتهم على الخروج معه إلى القافلة، لكن الآن ليس هناك قافلة، هناك جيش وجيش كبير، والرسول يعلم أنه لو أمر الأنصار لأطاعوه، فهم في أعلى قمم الإيمان، لكن الرسول يذكر بيعة العقبة الثانية، وفيها بايع الأنصار على نصرة الرسول إذا قدم إليهم في المدينة، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة. والأمر ليس فيه تكليف إلهي الآن فيسمع الجميع ويطيع، ولكنها الشورى. والرسول لا يريد أن يُكرِه الأنصار على القتال، فشتَّان بين مَن يقاتل وهو مكرَه، ومن يقاتل وهو راغب في الجهاد. ولا ننسى أن الأنصار ثلثا جيش المسلمين، هذا الطلب المتكرر للاستشارة لفت نظر سعد بن معاذ ؛ فقام وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال رسول الله بصراحة: "أجَلْ".
قال سعد (واسمع وتدبر فهذه من أبلغ صفات الجيش المنتصر): "فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ، فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَّا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّنَا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ"[6].
ثم قال (وتكلم في صراحة): "لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الأَنْصَارَ تَرَى حَقًّا عَلَيْهَا أَنْ لاَ تَنْصُرَكَ إِلاَّ فِي دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِينَا مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنُا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ"[7].
هؤلاء هم الأنصار! لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق.
سمع الرسول هذا الكلام، فتحرك في منتهى النشاط، وقال للناس في حماسة: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ"[8].
بل في رواية مسلم أن عمر بن الخطاب ، ذكر أن الرسول مرَّ مع المسلمين على أرض بدر ليلة المعركة، وعرَّفهم أين يموت كل طاغية من طواغيت مكة، وكان يقول: "هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله". فما أخطأ رجلٌ الموضع الذي حدده رسول الله .